فصل: تفسير الآيات (62- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (62- 67):

{اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنّها تذكّر باللّه، وتكشف عمّا له سبحانه وتعالى من كمال وجلال، ومن ملك وسلطان، وذلك بعد أن كانت الآية السابقة دعوة إلى اللّه، وتحذيرا للكافرين والضالين من عذاب اللّه، وما تكون عليه حالهم في الآخرة، من الندم والحسرة، وسوء المصير.
ألا فليذكر هؤلاء الكافرون باللّه، الذين لم يفتحوا آذانهم وعقولهم إلى ندائه الكريم الرحيم: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
ألا فليذكروا أن اللّه هو خالق كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.. فمن ولّى وجهه إلى غير اللّه، فقد خاب وخسر، وأورد نفسه موارد الهلاك.. وهذا ما يشير إليه:
قوله تعالى: {لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ}.
ومقاليد السموات والأرض: أزمّتها التي تقاد منها، كما يقاد الحيوان من عنقه، وهو موضع القلادة.. وهذا تشبيه وتمثيل، يراد به خضوع السموات والأرض للّه، وانقيادهما لقدرته.
قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ}.
هو تعقيب على هذا العرض الذي كشفت فيه الآيتان السابقتان عن بعض ما للّه سبحانه من سلطان مطلق في هذا الوجود، لا يملك أحد معه مثقال ذرّة منه.
وهذا التعقيب هو وإن كان تلقينا من اللّه سبحانه وتعالى لنبيه- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلا أنه دعوة العقل، تلتقى مع أمر اللّه!.
فالعقل بمنطقه، لا يجد أمام هذا العرض لقدرة اللّه، وبين يدى تلك الدلائل الدالة على وحدانيته- لا يجد إلا الإذعان للّه، والولاء له، وإخلاص العبادة له وحده، غير ملتفت إلى ما يدعو إليه أهل الجهالة والضلالة، من عبادة ما يعبدون من ضلالات.
والاستفهام إنكارى.. والأمر ليس أمرا على حقيقته، وإنما هو دعوة من دعوات الضالين للنبى بعبادة غير اللّه، وذلك بإنكارهم عليه أن يعبد اللّه.. ومفهوم المخالفة لهذا الإنكار، هو أن يعبد غير اللّه.
وفى قوله تعالى: {أَيُّهَا الْجاهِلُونَ} توبيخ لهؤلاء الداعين إلى عبادة غير اللّه، وفضح للداء الذي أوقعهم فيما هم فيه من ضلال، وهو الجهل.
فلو أنهم كانوا على شيء من العلم، لما ركبوا هذا الطريق المظلم، وبين يديهم طريق مستقيم مضيء.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} هو تشنيع على الشرك، وعلى ما يحيق بالمشركين من غضب اللّه ونقمته، وأنه أمر إن وقع فيه أحد، فلا شفاعة له عند اللّه- حتى ولو فرض- وهو مستحيل- إن كان الذي يشرك باللّه، من أقرب المقربين إلى اللّه، وهم أنبياء اللّه، أو كان من أكرم خلق اللّه على اللّه، وهو رسول اللّه!
قوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
هو تأمين على ما قررته الآية السابقة، وتوكيد لما حملت من إنكار على الكافرين دعوتهم النبيّ إلى عبادة غير اللّه.. فهم يدعون النبي إلى عبادة غير اللّه، واللّه سبحانه وتعالى يدعوه إلى عبادته.. وفى هذا إبطال لدعوة المشركين، وإهدار لها.
وفى الجمع بين العبادة والشكر، إشارة إلى أن هذه العبادة ليست عبادة قهر وقسر، بل هي عبادة حمد وشكر، وولاء، وحبّ للّه سبحانه وتعالى، الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى.
قوله تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
أي أن هؤلاء الذين كفروا باللّه، إنما كفروا به لأنهم لم يتعرفوا إليه، ولم يعرفوا بعض كمالاته، وصفاته.
وقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} جملة حالية، من لفظ الجلالة، أي أن هؤلاء الكافرين لم يقدروا اللّه حق قدره، والحال أن الأرض تكون في قبضته يوم القيامة، فأنّى لهم المهرب من حسابه وعقابه؟.
وقوله تعالى: {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} حال أخرى معطوف على قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ}.
وطىّ السماء بيمين اللّه سبحانه وتعالى، هو استجابتها لقدرته، وخضوعها لسلطانه، يطويها وينشرها، كما شاء سبحانه.. ومثل هذا قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [104: الأنبياء].
وقوله تعالى: {سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
هو ردّ المؤمنين على الكافرين، والضالين، الذين لم يقدروا اللّه حق قدره، فأشركوا به، وجعلوا ولاءهم لغيره.. والمؤمنون- وقد قدروا اللّه حق قدره- ينزّهون اللّه سبحانه وتعالى عن أن يكون له شركاء، وينكرون على المشركين ما هم فيه من ضلال، وكفر باللّه.

.تفسير الآيات (68- 75):

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ}.
تحدّث هذه الآية والآيات التي بعدها إلى آخر السورة، عن مشاهد القيامة، وإرهاصاتها، وما يلقى الكافرون من بلاء وعذاب، وما يستقبل به المؤمنون من حفاوة وتكريم وترحيب، في جنات النعيم.
والصور: هو البوق الذي ينفخ فيه، كنذير بإعلان حرب، أو وقوع غارة، ونحو هذا.. وأصله من الصّوار، وهو قرن الحيوان، وقد كان البوق يتخذ عادة من قرن ثور، أو وعل أو نحوهما.. والصوار أعلى الشيء، وجمعه صوار، ومؤنثه صارية.
والنفخ في الصور من قبل اللّه سبحانه وتعالى، هو الأمر الذي يصدر منه سبحانه، إلى ما يشاء من عالم الخلق، فيستجيب له من وقع عليه الأمر، بلا تردد أو مهل.. ولهذا شبه الأمر بالنفخ في الصور، حيث يفزع كل من سمع النفخة، فيخفّ مسرعا، متخليا عن كل شيء، ليتوقى هذا الخطر الداهم.
والصعق: حال من الفزع تعترى الكائن الحي، فتشلّ حركته، وتهدّ كيانه، أشبه بما يكون من صعقة الصاعقة، ومسة الكهرباء.
وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} هو إشارة إلى النفخة الأولى، وهى نفخة الموت.. ففى هذه النفخة يصعق، أي يموت، من في السموات والأرض من عالم الأحياء.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} هو استثناء لمن لا تقع عليهم هذه الصعقة، أي الذين لا يقضى بموتهم فيها، أو الذين لا تمسهم زلزلة منها.
والسؤال هنا هو: هل العالم العلوي مشترك مع العالم الإنسانى في هذا الذي يجرى على الناس، من موت، وبعث، وحساب وجزاء؟.
وإذا لم يكن مشتركا مع العالم البشرى، فكيف يصعق من في السموات؟
وما تأويل قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}.
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن القيامة وأهوالها، وما فيها من حساب وجنة، ونار، هي مما يقع على أبناء آدم وحدهم، على تلك الصورة التي جاءت بها الكتب السماوية، وأنذر بها رسل اللّه أقوامهم، الذين أرسلوا إليهم.
وقد تكون هناك أحوال للعوالم الأخرى، ولكن ليس من شأننا أن نبحث عنها، أو نشغل بها، إذ كان لا يعنينا من أمرها شيء، سواء أوقعت أو لم تقع، وسواء أوقعت على تلك الصورة، أو غيرها.
وإذن، فإن كل ما تحدث به القرآن الكريم مما يتصل بالموت، والبعث، والحساب، والجزاء، هو مما يتصل بعالمنا نحن، لا يتجاوزه إلى العوالم الأخرى.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} هو مقصور على أبناء آدم، وما يتصل بهم في عالمهم الأرضىّ.
وقد تحدث القرآن الكريم عن أن لأبناء آدم صلة بالسماء، وأن النفس الإنسانية هي من العالم العلوي، وأنها حين تفارق الجسد لا تموت بموته، بل تلحق بعالمها العلوي، وتأخذ مكانها فيه.
فالموتى من بنى آدم، إذ تكون أجسامهم في عالم التراب، تكون نفوسهم في السماء، أو العالم العلوي.. وإنه حين ينفخ في الصور نفخة الموت العام لأبناء آدم، يفزع ويصعق من في السموات ومن في الأرض.. أما من في السموات، فهم الناس في أرواحهم ونفوسهم تلك التي سبقت إلى العالم العلوي، وأما من في الأرض، فهم الذين كانوا لا يزالون في عالم الأحياء لم يموتوا بعد، فتدركهم النفخة، فيصعقون ويموتون.. وأما الصعقة التي تقع على الأرواح والنفوس، فهى صعقة فزع، وخوف من لقاء هذا الوعد، يوم الحساب والجزاء الذي كانت هذه الصعقة إرهاصا بقرب موعده.
ويكون قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} استثناء واقعا على نفوس الأخيار المصطفين من عباد اللّه، وأوّلهم رسله، وأنبياؤه وأولياؤه، حيث لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
وقوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} هو إشارة إلى نفخة البعث، بعد نفخة الموت.
وقوله تعالى: {فإذا} للمفاجأة.. أي أن هذا البعث يجيء على فجاءة، دون أن يعلم أحد موعده.
وقوله تعالى: {فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} إشارة إلى أن البعث يقع للناس جميعا في لحظة واحدة، حيث يولدون جميعا ميلادا كاملا، على صورة كاملة.
يجد فيها كل إنسان حواسّه ومدركاته، ووجوده كله.
قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وإشراق الأرض بنور ربها، هو تجلّى اللّه سبحانه وتعالى عليها في هذا اليوم، يوم القيامة، حيث يعرض الناس على ربهم للحساب والجزاء.
وقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتابُ} أي الكتاب الذي سجلت فيه أعمال الناس، حيث يرى الناس أعمالهم، ويأخذ كل إنسان كتابه من هذا الكتاب.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [29: الجاثية] وقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً} [13: الإسراء] وقوله تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ}.
أي دعى النبيون ليحضروا محاسبة أقوامهم، وليشهدوا على ما كان منهم، من إيمان أو كفر.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} [1: 7 الإسراء].
ويقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء].
والشهداء: هم الذين يشهدون على الناس، من أنبياء وملائكة، وعلماء وهداة، ودعاة إلى اللّه، وكذلك ما في كيان كل إنسان من أعضاء، تشهد عليه، كما يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [24: النور] وكما يقول سبحانه: {وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} [21 ق].
والصورة تمثل محكمة عليا تقضى بين الناس، وتحدد لكل إنسان مصيره الذي هو صائر إليه.. والقائم على هذه المحكمة، هو أحكم الحاكمين رب العالمين.
والكتاب هو صحيفة الدعوى، والأنبياء والشهداء هم الشهود.. والمحامون، هم المحاكمون، والمحاسبون، كما يقول اللّه سبحانه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها} [111: النحل].
ثم بعد هذا تصدر الأحكام من رب الأرباب: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
قوله تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ}.
هو تعقيب على هذه المحاكمة، وأن كل نفس قد قضى لها أو عليها بالحق والعدل، وفّيت جزاء ما عملت من خير أو شر.
وقوله تعالى: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ} احتراس من أن يقع في الوهم أن هذه المحاكمة التي أحضر فيها الكتاب، واستدعى لها الشهود، قد جاءت على هذه الصورة لتكشف عن أعمال الناس، وكلّا، فإن اللّه سبحانه وتعالى عالم بكل ما يعملون، لا تخفى على اللّه منهم خافية.. ولكن ذلك ليرى الناس بأعينهم ما كان منهم، وليحاكموا أنفسهم، وليشهدوا عدل اللّه المطلق فيما أجرى عليهم من أحكام!.
قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ}.
وإذا قضى بين الناس بالحق، وعرف كل إنسان ما قضى به اللّه سبحانه وتعالى فيه، وامتاز أصحاب النار من أصحاب الجنة- عندئذ يساق الكافرون إلى جهنم زمرا، أي جماعات.. كل جماعة تنزل منزلها المعدّ لهم في جهنم.
وكلما وصل فوج إلى جهنم فتحت أبوابها، فيلقاهم خزنتها سائلين في لوم وتوبيخ: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} فلا يجد الكافرون إلا أن يقولوا في حسرة، وندم، وذلة: {بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ} أي بلى قد جاءت رسل ربّنا، وتلوا علينا آياته، ولكن حقّ علينا قضاء اللّه فينا أن نكون من أصحاب النار.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسانهم: {فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ} [31: الصافات].
وفى قوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها}.
إشارة إلى أن هذه الأبواب مغلقة على من فيها، وأنها لا تفتح إلا عند ورود فوج من الأفواج المساقين إليها، وكلما دخل فوج أغلقت عليه أبوابها، فإذا جاء فوج جديد فتحت له، ثم أغلقت عليه.. وهكذا.. إنها سجن مطبق على من بداخله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [8- 9 الهمزة] وفى إقامة الظاهر، مقام المضمر في قولهم، {وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ} بدلا من أن يقولوا: ولكن حقت كلمة العذاب علينا- في هذا إشارة إلى أنّهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر، بعد أن رأوا بأعينهم صحائف أعمالهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} [130: الأنعام].
قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.
هو تعقيب على جواب الكافرين عن سؤال خزنة جهنم لهم، حين سألوهم هذا السؤال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} فكان جوابهم: بلى! وكان التعقيب على هذا الجواب: {ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.
وفى قوله تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ} بدلا من أن يقال: ادخلوا جهنم كما هو الواقع فعلا- في هذا إشارة إلى أن لأبواب قطعة من جهنم، وأن الذي يدخلها، إنما هو في جهنم فعلا.
وقوله تعالى: {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} بيان للداء الذي كان منه كفرهم، وهو الاستكبار، والاستعلاء، عن أن ينقادوا للحق، وأن يذعنوا للآيات البينات منه.
والمثوى: المنزل، والمقرّ الذي يستقر فيه الإنسان.
قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ}.
عبّر عن السّير بالمتقين إلى الجنة، بالسّوق، كما عبّر به عن دفع الكافرين إلى جهنم، وذلك للمشاكلة بينهم في الحال التي كانوا عليها في موضع الحساب، وأنه لم يكن يدرى أحد منهم ما اللّه صانع به، حتى إذا حوسبوا جميعا، ولم يبرحوا الموقف بعد، انقسموا إلى فريقين، كل فريق يأخذ اتجاها لا يدرى ما هو.. فهذا يساق، وذاك يساق.. ولا يعلم أحد إلى أين المساق.
ثم ينكشف الحال، فإذا الكافرون إلى جهنم، وبين يدى أبوابها، وإذا المؤمنون المتقون إلى الجنّة، وعلى مشارف ظلالها.. وفى هذا مضاعفة للسرور الذي يلقاهم بهذا الفوز العظيم بعد أن ذهبت بهم الظنون.. كل مذهب.
وفى قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوابُها} الواو هنا واو الحال، والجملة حال من فاعل جاءوها، على تقدير الحرف قد أي حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها، وهذا يعنى أنهم يجدون أبوابها مفتحة لهم، كما يقول سبحانه وتعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ} [50: ص].
فهم لا يقفون عند أبواب الجنة، بل يمضون إلى حيث أراد اللّه لهم من نعيمه ورضوانه.. ويلقاهم عند هذه الأبواب خزنة الجنة وحرّاسها، وحجابها، رسلا من اللّه، لاستقبال ضيوفه، والترحيب بهم، قائلين لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ} أي لكم سلام من اللّه.. طبتم وطهرتم من كل دنس، فاهنئوا بهذا المقام الطيب، الذي لا يحلّ به إلا كل طيب.
وجواب إذا محذوف، دل عليه السياق، وتقديره: حتى إذا جاءوها وقد فتحت لهم أبوابها وتلقوا هذه التحية الطيبة من ملائكة الرحمن، ودخلوا الجنة- وجدوا ما لا يستطيع وصفه الواصفون من نعيم ورضوان.
قوله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ}.
هو معطوف على جواب إذا المحذوف، أي حتى إذا دخلوا الجنة، بهرهم هذا النعيم الذي لم يكن يخطر لهم على بال، وقالوا بلسان الحمد والشكران: الحمد للّه الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء.
والوعد الذي صدقهم اللّه إياه، هو ما وعدهم على لسان رسله، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ}.
وهذا الوعد هو ما وعد اللّه به المؤمنين من جنات ونعيم في الآخرة كما يقول سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [72: التوبة] وقوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ}.
الأرض هنا هي أرض الحياة الدنيا، وميراثها هو التمكين منها والانتفاع بها.. والمؤمنون أيّا كان حظهم من هذه الدنيا- هم الوارثون لهذه الدنيا، لأنهم هم الذين قطفوا أطيب ثمراتها، وهو الإيمان باللّه، والعمل الصالح.. أما ما أخذه غيرهم من أهل الكفر والضلال، فهو- وإن كثر- لا وزن له، ولا نفع لهم منه.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ} [55: النور] وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} [105 الأنبياء].. فالمؤمنون باللّه، هم ورثة هذه الأرض، وهم خلفاء اللّه عليها.. أما غيرهم فهمل لا حساب له.
وقوله تعالى: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ} أي ننزل من الجنة حيث نشاء، غير مضيّق علينا بحدود أو قيود فيها.. والجملة معطوفة على محذوف، أي الحمد للّه الذي أورثنا الأرض في الدنيا، وأورثنا الجنة في الآخرة نقبوا منها حيث نشاء.
وقوله تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ}.
هو تعقيب على ما لهج به أصحاب الجنة من حمد اللّه، ومن التحدث بما أفاض عليهم من نعم في الدنيا والآخرة.
وهذا التعقيب، قد يكون من الملائكة، الذي شهدوا حمدهم وتسبيحهم، وقد يكون بلسان الحال، فهو منطق كل من يرى هذا النعيم، وما يساق إلى أهله منه، مما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين.
قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
الخطاب هنا للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه- وهو بعد هذا خطاب لكل من يشهد موقف القيامة.. ففى هذا اليوم يرى الناس الملائكة، وقد حفّوا بعرش الرحمن، يسبحون بحمد ربّهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} [17: الحاقة] وقوله تعالى: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [22: الفجر] وهذه حال لا يمكن أن نتصورها في عالمنا الحسّى، وعلينا أن نصدّق بوقوعها، على أية صورة تقع، دون أن نطلب الصورة التي تقع عليها، فهذا ما لا يمكن أن تبلغه مدركاتنا، أو تتمثله خواطرنا.
وقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ}.
أي وقضى بين الناس بالحق، في هذا اليوم، فلم تظلم نفس مثقال ذرّة.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
هو قول الوجود كلّه، ومعهم أهل المحشر من أصحاب الجنة، وأصحاب النار، فقد كان القضاء قضاء عادلا عدلا مطلقا، فلم يؤخذ أحد بجريرة لم يقترفها، ولم يدن أحد بشهادة زور.